كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



{بل لله الأمر جميعاً}.
وهو الذي يختار نوع الحركة وأداتها في كل حال.
فإذا كان قوم بعد هذا القرآن لم تتحرك قلوبهم فما أجدر المؤمنين الذي يحاولون تحريكها أن ييأسوا من القوم؛ وأن يدعوا الأمر لله، فلو شاء لخلق الناس باستعداد واحد للهدى، فلهدى الناس جميعاً على نحو خلقة الملائكة لو كان يريد. أو لقهرهم على الهدى بأمر قدري منه.. ولكن لم يرد هذا ولا ذاك. لأنه خلق هذا الإنسان لمهمة خاصة يعلم سبحانه أنها تقتضي خلقته على هذا النحو الذي كان.
فليدعوهم إذن لأمر الله. وإذا كان الله قد قدر ألا يهلكهم هلاك استئصال في جيل كبعض الأقوام قبلهم، فإن قارعة من عنده بعد قارعة تنزل بهم فتصيبهم بالضر والكرب، وتهلك من كتب عليه منهم الهلاك.
{أو تحل قريباً من دارهم}..
فتروعهم وتدعهم في قلق وانتظار لمثلها؛ وقد تلين بعض القلوب وتحركها وتحييها.
{حتى يأتي وعد الله}..
الذي أعطاهم إياه، وأمهلهم إلى انتهاء أجله:
{إن الله لا يخلف الميعاد}..
فهو آت لا ريب فيه، فملاقون فيه ما وعدوه.
والأمثلة حاضرة، وفي مصارع الغابرين عبرة، بعد الإنظار والإمهال:
{ولقد أستهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب}.
وهو سؤال لا يحتاج إلى جواب. فلقد كان عقاباً تتحدث به الأجيال!!!
والقضية الثانية هي قضية الشركاء. وقد أثيرت في الشطر الأول من السورة كذلك. وهي تثار هنا في سؤال تهكمي حين تقرن هذه الشركاء إلى الله القائم على كل نفس، المجازي لها بما كسبت في الحياة. وتنتهي هذه الجولة بتصوير العذاب الذي ينتظر المفترين لهذه الفرية في الدنيا والعذاب الأشق في الآخرة. وفي مقابلة ما ينتظر المتقين من أمن وسلام!
{أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق}..
{مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار}..
والله سبحانه رقيب على كل نفس، مسيطر عليها في كل حال، عالم بما كسبت في السر والجهر. ولكن التعبير القرآني المصور يشخص الرقابة والسيطرة والعلم في صورة حسية على طريقة القرآن صورة ترتعد لها الفرائص:
{أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت}.
فلتتصور كل نفس أن عليها حارساً قائماً عليها مشرفاً مراقباً يحاسبها بما كسبت. ومن؟ إنه الله! فأية نفس لا ترتعد لهذه الصورة وهي في ذاتها حق، إنما يجسمها التعبير للإدراك البشري الذي يتأثر بالحسيات أكثر مما يتأثر بالتجريديات.
أفذلك كذلك؟ ثم يجعلون لله شركاء؟! هنا يبدو تصرفهم مستنكراً مستغرباً في ظل هذا المشهد الشاخص المرهوب.
{وجعلوا لله شركاء}..
الله القائم على كل نفس بما كسبت، لا تفلت منه ولا تروغ.
{قل سموهم}! فإنهم نكرات مجهولة. وقد تكون لهم أسماء. ولكن التعبير هنا ينزلهم منزلة النكرات التي لا تعرف أسماؤها.
{أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض}.. يا للتهكم! أم إنكم أنتم البشر تعلمون ما لا يعلمه الله؟ فتعلمون أن هناك آلهة في الأرض، وغاب هذا عن علم الله؟! إنها دعوى لا يجرؤون على تصورها. ومع هذا فهم يقولونها بلسان الحال، حين يقول الله أن ليست هناك آلهة، فيدعون وجودها وقد نفاه الله!
{أم بظاهر من القول}.
تدعون وجودها بكلام سطحي ليس وراءه مدلول. وهل قضية الألوهية من التفاهة والهزل بحيث يتناولها الناس بظاهر من القول؟!
وينتهي هذا التهكم بالتقرير الجاد الفاصل:
{بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد}..
فالمسألة إذن أن هؤلاء كفروا وستروا أدلة الإيمان عنهم وستروا نفوسهم عن دلائل الهدى، فحقت عليهم سنة الله، وصورت لهم نفوسهم أنهم على صواب، وأن مكرهم وتدبيرهم ضد الدعوة حسن وجميل، فصدهم هذا عن السبيل الواصل المستقيم. ومن تقتضي سنة الله ضلاله لأنه سار في طريق الضلال فلن يهديه أحد، لأن سنة الله لا تتوقف إذا حقت بأسبابها على العباد.
والنهاية الطبيعية لهذه القلوب المنتكسة هي العذاب:
{لهم عذاب في الحياة الدنيا}.
إن أصابتهم قارعة فيها، وإن حلت قريباً من دارهم فهو الرعب والقلق والتوقع. وإلا فجفاف القلب من بشاشة الإيمان عذاب، وحيرة القلب بلا طمأنينة الإيمان عذاب. ومواجهة كل حادث بلا إدراك للحكمة الكبرى وراء الأحداث عذاب..
{ولعذاب الآخرة أشق}..
ويتركه هنا بلا تحديد للتصور والتخيل بلا حدود.
{وما لهم من الله من واق}.
يحميهم من أخذه، ومن نكاله. فهم معرضون بلا وقاية لما ينزله من عذاب..
وعلى الضفة الأخرى {المتقون}.. في مقابل {وما لهم من الله من واق}. المتقون الذين وقوا أنفسهم بالإيمان والصلاح فهم في مأمن من العذاب. بل لهم فوق الأمن الجنة التي وعدوها: {ذلك مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها} فهو المتاع والاسترواح ومشهد الظل الدائم والثمر الدائم مشهد تطمئن له النفس وتستريح في مقابل المشقة هناك:
ذلك العذاب وهذه الجنة هما النهاية الطبيعية لهؤلاء وهؤلاء:
{تلك عقبى الذين اتقوا.
وعقبى الكافرين النار}..
ويمضي السياق مع قضية الوحي وقضية التوحيد معاً يتحدث عن موقف أهل الكتاب من القرآن ومن الرسول صلى الله عليه وسلم ويبين للرسول أن ما أنزل عليه هو الحكم الفصل فيما جاءت به الكتب قبله، وهو المرجع الأخير، أثبت الله فيه ما شاء إثباته من أمور دينه الذي جاء به الرسل كافة؛ ومحا ما شاء محوه مما كان فيها لانقضاء حكمته. فليقف عندما أنزل عليه، لا يطيع فيه أهواء أهل الكتاب في كبيرة ولا صغيرة. أما الذين يطلبون منه آية، فالآيات بإذن الله وعلى الرسول البلاغ.
{والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب وكذلك أنزلناه حكماً عربياً ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب}..
إن الفريق الصادق من أهل الكتاب في الاستمساك بدينه، يجد في هذا القرآن مصداق القواعد الأساسية في عقيدة التوحيد؛ كما يجد الاعتراف بالديانات التي سبقته وكتبها، ودرسها مع الإكبار والتقدير، وتصور الآصرة الواحدة التي تربط المؤمنين بالله جميعاً. فمن ثم يفرحون ويؤمنون. والتعبير بالفرح هنا حقيقة نفسية في القلوب الصافية وهو فرح الالتقاء على الحق، وزيادة اليقين بصحة ما لديهم ومؤازرة الكتاب الجديد له..
{ومن الأحزاب من ينكر بعضه}..
الأحزاب من أهل الكتاب والمشركين.. ولم يذكر السياق هذا البعض الذي ينكرونه، لأنه الغرض هو ذكر هذا الإنكار للرد عليه:
{قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعوا وإليه مآب}..
فله وحده العبادة، وإليه وحده الدعوة، وله وحده المآب.
وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلن منهجه في مواجهة من ينكر بعض الكتاب، وهو استمساكه الكامل بكامل الكتاب الذي أنزل إليه من ربه، سواء فرح به أهل الكتاب كله، أم أنكر فريق منهم بعضه. ذلك أن ما أنزل إليه هو الحكم الأخير، نزل بلغته العربية وهو مفهوم له تماماً، وإليه يرجع ما دام هو حكم الله الأخير في العقيدة:
{وكذلك أنزلناه حكماً عربياً}..
{ولئن اتبعت أهواءهم بعدما جاءك من العلم ما لك من الله من واق}.
فالذي جاءك هو العلم اليقين، وما يقوله الأحزاب أهواء لا تستند إلى علم أو يقين. وهذا التهديد الموجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أبلغ في تقرير هذه الحقيقة، التي لا تسامح في الانحراف عنها، حتى ولو كان من الرسول، وحاشاه عليه الصلاة والسلام.
وإذا كان هناك اعتراض على بشرية الرسول فقد كان الرسل كلهم بشراً:
{ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية}.
وإذا كان الاعتراض بأنه لم يأت بخارقة مادية، فذلك ليس من شأنه إنما هو شأن الله:
{وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله}..
وفق ما تقتضيه حكمته وعندما يشاء.
وإذا كان هناك خلاف جزئي بين ما أنزل على الرسول وما عليه أهل الكتاب، فإن لكل فترة كتاباً، وهذا هو الكتاب الأخير:
{لكل أجل كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب}..
فما انقضت حكمته يمحوه، وما هو نافع يثبته. وعنده أصل الكتاب، المتضمن لكل ما يثبته وما يمحوه. فعنه صدر الكتاب كله، وهو المتصرف فيه، حسبما تقتضي حكمته، ولا راد لمشيئته ولا اعتراض.
وسواء أخذهم الله في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء مما أوعدهم، أو توفاه إليه قبل ذلك، فإن هذا لا يغير من الأمر شيئاً، ولا يبدل من طبيعة الرسالة وطبيعة الألوهية:
{وإمّا نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب}..
وفي هذا التوجيه الحاسم ما فيه من بيان طبيعة الدعوة وطبيعة الدعاة.. إن الدعاة إلى الله ليس عليهم إلا أن يؤدوا تكاليف الدعوة في كل مراحلها؛ وليس عليهم أن يبلغوا بها إلا ما يشاؤه الله. كما أنه ليس لهم أن يستعجلوا خطوات الحركة، ولا أن يشعروا بالفشل والخيبة، إذا رأوا قدر الله يبطئ بهم عن الغلب الظاهر والتمكين في الأرض، إنهم دعاة وليسوا إلا دعاة.
وإن يد الله القوية لبادية الآثار فيما حولهم، فهي تأتي الأمم القوية الغنية حين تبطر وتكفر وتفسد فتنقص من قوتها وتنقص من ثرائها وتنقص من قدرها؛ وتحصرها في رقعة من الأرض ضيقة بعد أن كانت ذات سلطان وذات امتداد، وإذا حكم الله عليها بالانحسار فلا معقب لحكمه، ولابد له من النفاذ:
{أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب}..
وليسوا هم بأشد مكراً ولا تدبيراً ولا كيداً ممن كان قبلهم. فأخذهم الله وهو أحكم تدبيراً وأعظم كيداً:
{وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعاً يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار}..
ويختم السورة بحكاية إنكار الكفار للرسالة. وقد بدأها بإثبات الرسالة.
فيلتقي البدء والختام. ويشهد الله مكتفياً بشهادته. وهو الذي عنده العلم المطلق بهذا الكتاب وبكل كتاب:
{ويقول الذين كفروا لست مرسلاً قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب}.
وتنتهي السورة وقد طوفت بالقلب البشري في أرجاء الكون، وأرجاء النفس، ووقعت عليه إيقاعات مطردة مؤثرة عميقة. وتركته بعد ذلك إلى شهادة الله التي جاء بها المطلع وجاء بها الختام، والتي يحسم بها كل جدل، وينتهي بعدها كل كلام..
وبعد.. ففي السورة معالم للعقيدة الإسلامية، وللمنهج القرآني في عرض هذه العقيدة.. وكان من حق هذه المعالم أن نقف عندها في مواضعها؛ لولا أننا آثرنا ألا نقطع تدفق السياق القرآني في هذه السورة بتلك الوقفات؛ وأن نبقيها إلى النهاية لنقف أمامها متمهلين!
وقد أشرنا في أثناء استعراض السورة في سياقها إلى تلك المعالم إشارات سريعة؛ فنرجو أن نقف عندها الأن وقفات أطول بقدر المستطاع.
.. والله المستعان..
إن افتتاح السورة، وطبيعة الموضوعات التي تعالجها، وكثيراً من التوجيهات فيها.. كل أولئك يدل دلالة واضحة على أن السورة مكية وليست مدنية كما جاء في بعض الروايات والمصاحف وأنها نزلت في فترة اشتد فيها الإعراض والتكذيب والتحدي من المشركين؛ كما كثر فيها طلب الخوارق من الرسول صلى الله عليه وسلم واستعجال العذاب الذي ينذرهم به؛ مما اقتضى حملة ضخمة تستهدف تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه على الحق الذي أنزل إليه من ربه، في وجه المعارضة والإعراض، والتكذيب والتحدي؛ والاستعلاء بهذا الحق، والإلتجاء إلى الله وحده؛ وإعلان وحدانيته إلهاً ورباً؛ والثبات على هذه الحقيقة؛ والاعتقاد بأنها هي وحدها الحق، مهما كذب بها المشركون. كما تستهدف مواجهة المشركين بدلائل هذا الحق في الكون كله، وفي أنفسهم، وفي التاريخ البشري وأحداثه كذلك؛ مع حشد جميع هذه المؤثرات ومخاطبة الكينونة البشرية بها خطاباً مؤثراً موحياً عميق الإيقاع قوي الدلالة.